من سلسلة حتى الخميس القادم المعروضة بصفحة عش الأسطورة بالفيس بوك
حين يتعانق المجد والموت
اعداد الأستاذ توفيق قاسم العقابي صور من مكتبة رضا المحمدي
"حين يتعانق المجد والموت" مقال للكاتب الكبير يوسف ادريس كتبه حين وصول جثمان العندليب من لندن الى مطار القاهرة الدولي بصندوق الخشب، مقال كتب ليقرأ في يومنا هذا... اهمية المقال من وجهة نظري ان الدكتور يوسف ادريس ضليع بالتحليل النفسي.. ولقربه من حليم فهو مطلع على حالة حليم الصحية بكل تفاصيلها الدقيقة.. وحبه الشديد لحليم.. أترككم مع يوسف أدريس... وحليم ....ومابين السطور..... هكذا هم العمالقة المبدعون دائماً....... "حين يتعانق المجد والموت" مقال للكاتب الكبير يوسف ادريس... جفت الأقلام وطويت الصفحة وأنتهت القصة... قصة من غريبات قصص الحياة.. طفل فلاح مصري يتيم كان مفروضاً أن يموت في سن العشرين... ولكن بأرادة الفلاح المصري الذي وكأنما أعتزم منذ أن وجد على سطح الأرض أن يحيا الى نهايتها... كافح اليتم والفقر ودأب وجد وجاع وتشرد وتعلم الموسيقى.... لماذا الموسيقى؟؟؟ لأنهم كانوا في ملجأ للأيتام (الذي تربى فيه) يكونون فرقة موسيقية سماعية اشتهرت بها دائماً تلك الملاجيء... وجاء الى القاهرة والى الأسكندرية.. وجاب الشوارع والأزقة والمدارس والقعدات.. وبضربة حظ من هنا، وأرادة وصول من هناك... غنى لأول مرة للآلآف.. ومنذ أن سمعه الناس أول مرة أرتفع فجأة من حيث كان الى أعلى مراتب الغناء في مصر. جاء صوته ليعبر عن عصر ثورة قامت.. وجيل شاب طامح متحمس.. وألتهاب أمة.. فيه الحلاوة من عبد الوهاب القديم... والرقة من دقة الأحساس.. وطفولة المعاناة.. ومعاناة الطفولة.. فيه رنة الفقر الآبي الشامخ.. وتواضع المصري المتحضر عن أدراك أنه الأحسن.. وفيه (وهذا هو الأهم) وقع جديد.. وقع العصر والمعاصرة.. وقع الحياة حين تدور وتطرح الى الوجود عالماً لم يكن موجوداً... في حاجة الى نغمة تنظم أيقاعه.. في حاجة الى زفرته الخاصة ولهفته الشخصية وتعبيره عن حبه بطريقته الجديدة.. لا حباً للمرأة فقط.. أنه الحب للحياة كلها.. في شمولها ورحابتها وأمتدادها.. حب جيل طامح عنيد.. حب يغني الحب كما يغني الثورة... يغني لتماثيل الرخام على الزراعية... مثلما يغني للمصير المجهول في قاع فنجان بن محروق... يغني للحظ والدنيا والنجاح.. نصراً يغنينا أذا أنتصرنا.. نكسة يغنينا أذا أنتكسنا.. قراراً أتخذنا.. يغنينا مأساة عشنا.. يغنينا مرحاً مرحنا.. فرحاً فرحنا يغنينا... ومنذ الطفولة كان الموت قد بدأ يدب فيه على هيئة تليف ف الكبد الناتج من بلهارسيا أمرضتنا لسبعة الآف عام.. وأخشى أن تظل تمرضنا للسبعة الآف عام القادمة... وفي صدر الشباب كان وسيماً.. ولكن أحد لم يكن يرى الشيء الأخطبوطي القبيح داخله.. المرض!!! وبدأت الأعراض.. وشيئاً فشيئاً بدأت أيدي الأخطبوط وأظفاره تزحف من الداخل الى الوجه الصبوح المليح في الخارج.. وبدأت قصة الأطباء.. تانر ولندن واللهفة على صحة عبد الحليم... ولكن وراء هذا كله كانت قصتا بطولة نادرتين... بطولة كفنان.. أنه كان موهبة من المستحيل أن تحدث أكثر من مرة في جيل واحد أو عدة أجيال... وكان يعرف هو (بذكائه الغريزي الهائل هذا) ويدركه ويستثمره ويطوره ويريد أن يصل بصوته وغناه الى الموسيقى العذبة الكاملة في أطلاقها وتجريدها حتى لتتكرر مرة ومرة ولها في كل مرة مذاق مفاجيء جديد... وقشعريرة أستجابة طازجة... أما بطولة عبد الحليم الأنسان فهو أنه كسيزيف حامل صخرة الفن والحياة.. وفي داخله يحمل الصخرة الأثقل.. صخرة المرض,, كان قد وطن نفسه على أن يظل يصعد بالصخرتين الهائلتين سطح الجبل بأسرع وقت... وأشق جهد وبخطوات يحسمها اليأس.. ليس فيها سوى شعيرات قليلة من الأمل كي يصل الى القمة.. قمة المجد وقمة الوصول... وكان يعرف ويدرك تماماً أن الموت رابض له عند هذه القمة... ومع ذلك ظل بالصخرتين يئن ويصعد الى المجد... والموت معاً. بطولته أنه (وهذا هو الغريب) لم يكن به شذوذ الفنانين ولا تقاليعهم.. كان وكأنما هو أنسان مثلي ومثلك.. أنسان منا تماماً... فيه كل خبثنا ودهائنا وشهامتنا وخوفنا وشجاعتنا ولكنه ينفرد عنا بقدرته أن يغنينا... بطولته أنه وهو يتلوى من العذاب آلماً... كان في نفس اللحظة يتلوى أندماجاً سعيداً.. ليسعدنا.. بطولته أنه كان في الداخل يبكي نفسه... وحظه وقدره الأغريقي التعس... وبكل ذرة من كيانه يحيل بكاءه الى أبتسامات سعادة على وجوهنا ويشعرنا بالحياة أقوى ماتكون الحياة... بطولته أنه كان وفي أعمق أعماقه يائساً تماماً (كم من مرة صرح لي بهذا..) ولكنه أملاً لنا.. أملاً صادقاً كان يغني.. صادقاً الى درجة يبعث فينا (هو الميت يأساً) الحياة أملاً!!!!! بطولته أنه جمل حياتنا خلال خمسة وعشرين عاماً بمشاعر جاءتنا كالغيث الجديد... يروي فينا جدباً كنا نحسه.. ويهمس لنا بادهى وأرق وأعمق الأنفعالات... وكأنه يغور فينا بصوته الحنون الى أن يجعل كلاً منا يغني رقته الخاصة.. وأهاته الخاصة.. وأنفعاله الخاص...
هز أعماق الحياة في وجودنا هزاً و (مسق) حياتنا.. صبانا ونحن طلقى كالعصافير.. شبابنا ونحن نرود وديان الحب والهجر ونمسح دمعة الفرحة لنتبعها بدمعة اللوعة.. رجولتنا ونحن نبني.. ونحن نغار.. ونحن نقاتل.. ونحن نعشق عشق الكبار.. تفاؤلنا أذا بسمت لنا الحياة.. تشاؤمنا أذا أخافنا الواقع الحاضر.. آملنا حين يداعبنا.. وكآنه أحلام ماقبل اليقظة.. أحلام النشوة تفتح عينيك بعدها لتبدأ يوماً حافلاً باسماً جديداً كانه أبداً مامر بك ولن يمر بك. بطولته أنه فعل هذا كله رغم أنف الأخطبوط المتوحش الزاحف من داخله.. ينهشه.. يسحب رحيق الوجود من وجوده.. ييبس جلده.. وملامحه حتى ليصبح كالبلحة (البريمو الجافة) ولكنها جافة ليس جفاف نضج وأنما جفاف العدم... ورغم هذا فالأخطبوط يحاصره من الداخل ومن الخارج وتبقى حنجرته.. حصنه القوي المانع المتفرد.. قوية وكأنها تستمد قوتها من قوة الخالق.. ناضجة كأجمل وأروع مايكون النضج.. منتصرة حتى والجسد منهك ومسحوق ومهزوم.. حنجرة على وقعها نحيا.. ونغني... ونحن نحيا ونحيا ونحن نغني...
تسعدنا وصاحبها أحوج مايكون الى ومضة سعادة.. تبكينا ثم تفيقنا من بكائنا على صوتها الرنان المليء بالرجولة.. والأنوثة.. والطفولة... والصبا... والشباب.. والشيخوخة: أي دمعة حزن لا لا لا.. وهذه هي بطولة الفنان الحق.. أذ هي دور الفنان الحق.. دور الفن الفنان.. الفاني ليبقينا.. الذاهب لنعيش.. المنتهي لنستمر نحن... اليوم نستقبل العندليب الأسمر..
العندليب الذي مات وضمه صندوق صغير بعد أن تذاوى جسده وسقط معظم ريشه ولم يبق منه سوى هيكل شادي الطبيعة الخفاق... أحتبس الصوت في حلقه الجاف.. وزحف الى صدره يغرقه.. وأختنق النغم في حلق العندليب... ومات... لكنه أختنق في الجسد المسجى الصغير الضيق لينطلق الى فسيح الزمان والمكان.. الى كل مكان وزمان... الى الأبد... فقد كان قطعة من الصدق في فنه... حين يموت الرسام تتضاعف مئات المرات أثمان لوحاته... وحين يموت الكاتب تصبح لكلمته وقع القدسية.. وحين يموت المغني يصبح صوته أثمن أمانه في عنق الأبد.. أذ هو صوت لن يعود ولن يتكرر ولن يزيد ولن ينقص.. جفت الأقلام أذن وطويت الصفحة وانتهت القصة... القصة الذي ظل الناس حيالها لأكثر من عشر سنوات يدركون أن نهايتها حانت.. ولكن بطلها الحليمي ظل يقاوم النهاية الى نهاية النهاية.. الى أن بدأنا نشك في قصة المرض نفسه.. ونفترض فيه الوهم أو الخلود أو أنه مرض سيدوم الى الأبد.. ولكن الكارثة أن المرض لايدوم الى الأبد.. في لحظة لابد أن تحل النهاية.. فاجعة رهيبة وكأنها المفاجأة.. مع أننا ظللنا نحياها العديد من السنين... ذلك أن نهاية الحياة.. حتى وأن تأكدنا منها.. أنما تأتي كالموت.. صاعقة ومفاجأة.. وغادرة.. مات العندليب الصغير الأسمر.. ليحيا العندليب الكبير الأبيض.. عندليب الخلود عندليبنا... عذوبته من عذوبتنا.. وأنغامنا الكامنة خلقت أنغامه.. ومادمنا نحيا... فسيظل يحيا... ويبقى... عبد الحليم حافظ... فالذي مات هو الحنجرة.. والذي سيحيا هو النغم الخالق المبدع الخارق الممتد عبر الزمان والمكان والأجيال...
العندليب الأسمر.. حين يتعانق المجد والموت
مراجعة بواسطة
Rida M'hamdi
في
1/07/2023
التقييم:
5
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق